Sunday, June 13, 2010

عندما يفشل القضاء في تحقيق العدالة

إستير ابيحائل - حقوق الاقباط


Bad laws are the worst sort of tyranny. ~Edmund Burke
القوانين السيئة هي أسوأ نوع من انواع الاستبداد ~ مقولة لادموند بيرك

لقد اصدرت المحكمة الإدارية العليا المصرية حكماً نهائياً يقضي بالزام البابا شنودة بطريرك الأقباط الارثوذكس بمنح تصريح الزواج الثاني للمسيحي المطلق ... وقد اعلن البابا شنودة رفضه لتطبيق هذا الحكم الذي اعتبره تعدياً على العقيدة المسيحية و قد وجد هذا الحكم رد فعل غاضب من ملايين الأقباط و استرعى هذا الحكم وردود فعله نظر الصحافة العالمية ، و اخيراً اجتمع اكثر من ثمانين اسقفاً للتوقيع على بياناً يقضي برفض الكنيسة لتطبيق حكم المحكمة الادارية العليا.

لماذا رفض البابا شنودة بطريرك الأقباط الارثوذكس تطبيق الحكم النهائي للمحكمة الادارية العليا؟ .. وهل تعدت المحكمة الادارية سلطاتها القضائية في مراقبة العمل الاداري و حكمت فيما يختص بالممارسة الدينية للكنيسة؟ و على اي قانون استند قضاة المحكمة الدستورية العليا في حكمهم بالزام البابا شنودة بمنح تصريح الزواج الثاني للمسيحي المطلق؟

دعني ابدأ من حيث انتهيت في تساؤلاتي و ذلك لانه يبدو لي ان القانون المحكوم به هو لب المشكلة.. ثم اتطرق لسلطة القضاء الاداري في مراقبة اعمال الكاهن و اختم بتقديري الشديد لوقفة البابا شنودة في اعلاء العدالة و رفضه لتطبيق قانون غير دستوري و خارق لحرية الفرد في اعتناق الاديان و ممارستها

اولاً: قانون الاحوال الشخصية يستمد قانونيته من حق المواطن الدستوري في ممارسة عقيدته الدينية .. المادة ٤٦ من الدستور المصري تنص على ان " تكفل الدولة حرية العقيدة و حرية ممارسة الشعائر الدينية" مقروءة مع المادة ٤٠ من الدستور و التي تنص على ان "المواطنون لدى القانون سواء ، و هم متساوون في الحقوق و الواجبات العامة ، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الاصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" .. فللمواطن المصري المسيحي حق اعتناق الديانة المسيحية و حرية ممارسة الشعائر المسيحية بحسب نص الكتاب المقدس و العقيدة المسيحيية المسلمة من الاباء .. بهذا المفهوم يفوض المواطنون الاقباط للكنيسة حقهم في تقديم القوانين التي تحكم ممارستهم للشعائر الدينية و التي تتماشى مع عقيدته و تقوم الكنيسة بتقديم قانون الاحوال الشخصية الذي يتماشى مع العقيدة المسيحية للبرلمان .. بعد التأكد من تماشي القانون المقترح مع روح القانون و عدم اخلاله للدستوريقوم البرلمان -او من المفروض ان يقوم البرلمان - بإيجازة القانون لضمان حرية المواطن لمعتقده و اتباعه لضميره .. عدم اجازة قانون الاحوال الشخصية او تعطيل التعديلات المقترحة هو عمل غير دستوري و خارق للحريات
في هذه الحالة التي نحن امامها اعترضت الكنيسة على القانون المطبق و اعتبرته منافي لمعتقداتها و بل و مقيدا لحرية المسيحيين في اعتناق و ممارسة عقيدتهم التي تلزمهم بعدم الطلاق إلا لعلة الزنا و لقد اعلنت الكنيسة انها قد طالبت الدولة مرات عديدة بتعديل قانون ١٩٣٨- الذي اعتبرته خارقا لمعتقداتها الدينية - ليتماشى مع المعتقد المسيحي و الممارسة الكنسية للشعائر الدينية .. فالقانون الذي استمد قانونيته من الدستور و المنوط به الحفاظ على حقوق الاقباط و حريتهم في اتباع معتقاداتهم الدينية هو في حقيقة الأمر قانون ينتهك حقوقهم الدينية ، و يفرض عليهم اعتناق عقيدة مخالفة لعقيدتهم .. و لهذا فان حكم المحكمة الدستورية العليا المبني على قانون للاحوال الشخصية لسنة ١٩٣٨ و هو القانون الذي اعتبرته الكنيسة مخالف لاعتقادات المواطنين الأقباط المعنيين بهذا القانون يصبح اعتداءاً قانونياً ليس على المواطنين الأقباط فحسب بل يعد اعتداءاً على الدستور و على الحريات وعلى العدل. فلماذا اعتمدت المحكمة الادارية العليا في حكمها على قانون غير دستوري خارق للحريات الدينية ، لماذا لم تحيل الادارية العليا القضية للمحكمة الدستورية للفصل في دستورية القانون الذي بلغ لعلمها انه مخالف لمعتقد الكنيسة الارثوذكسية؟؟ لماذا لم يسجل لنا قضاة المحكمة الادارية العليا عدم دستورية تطبيق قانون سنة ١٩٣٨ لانه يتعارض مع معتقدات الكنيسة الارثوذكسية و انه لم يحفظ حق المواطنين المعنيين منه في ممارسة شعائرهم الدينية المنصوص عنها في كتابهم المقدس؟؟ ولماذا عممت المحكمة الادارية العليا مطالبة الشاكي في هذه القضية لتشمل جميع الاقباط ؟ ولماذا جعلت من البابا شنودة خصماً للاقباط و من نفسها وصية على عقيدتهم؟؟ تغييرالشاكي لمعتقده الديني في هذه القضية لا يوجب تغيير المؤسسة الكنسية لمعتقدها ليتماشى مع معتقد المتحول .. فالدستور يحفظ حق المتحول ويحفظ ايضا حق من لا يريد التحول .. فحق الواحد لا ينزع الحق من الآخر .. فالقاعدة القانونية تقضي بأن حق الشخص يقف عند حق الآخر و اذا رأت المحكمة ان للشاكي حق دستورياً في تكوين الاسرة لماذا اغفلت حق الكاهن الدستوري في رفض القيام بعمل ديني ضد عقيدته؟

ثانياً: بالنسبة لسلطة القضاء الاداري في مراقبة العمل الكهنوتي نقول أن العمل التعبدي الديني الذي يقوم به الكاهن لا يخلو من المسؤلية القضائية فيما يترتب عليه هذا العمل من آثار قانونية .. عمل الكاهن الديني في تتميم الشعائر الدينية يلزمه على التعامل مع مواطنين الدولة .. و الدولة تخول للكاهن القيام بالاعمال الادارية.. و العمل التعبدي الديني تنتج عنه حقوق قانونية و قد ينتج عنه ضرر او منفعة قانونية للمواطنين.. فعلى الرغم من ان الكاهن الارثوذوكسي لا يعتبر موظفا عمومي بالمعنى المفهوم عن موظفي الدولة و هذا لأن الدولة لا تقوم باختياره للوظيفة و ليس لها حق محاكمته او مسائلته مهنيا وايضاً لأن الكاهن الارثوذكسي لا يتقاضى اجرا من الدولة ، إلا ان الكاهن لا يستثنى من المسائلة القانونية فيما يقوم به من اعمال قانونية تترتب عليها آثار قانونية من حقوق وواجبات و ضرر و فائدة. فالقضاء مختص بمراقبة العمل الاداري للكاهن، و مراقبة القضاء للجانب القانوني من عمل الكاهن لا تمتد إلى مراقبة اعماله التعبدية .. فاذا زوج الكاهن سيدة متزوجة سيخضع للمسائلة القضائية .. و اذا افشى الكاهن سر عرفه بحكم عمله الديني و تسبب افشاء هذا السر في ضرر لصاحبه او لآخر يخضع الكاهن للمسائلة القضائية .. و لكن المسائلة القضائية تقف عند الناحية الادارية من عمل الكاهن و لا يحق للمحكمة التدخل في العمل الديني الذي كان مصاحباً للعمل الاداري .. ففي حالة افشاء السر يخضع الكاهن للمسائلة بشأن افشاء السر و الضرر المترتب على هذا العمل ..و لكن لا يمتد حق المحكمة إلى مسائلة الكاهن فيما يختص بقراءة الحل و كيفيته في سر الاعتراف و لا يمكن للمحكمة الادارية ان تجبر الكاهن على قراءة الحل لمواطن قبطي .. و كذلك بالنسبة لتزويج السيدة المتزوجة ..الكاهن يخضع للقضاء فيما قام به من توثيق لهذا العقد و لكنه لا يخضع للمسائلة القضائية فيما قام به من ممارسة للعمل الديني لتكميل سر الزيجة و لا يستطيع القضاء الاداري اجبار الكاهن على اجراء شعائر دينية لابطال هذا الزواج.
اذا فمحكمة القضاء الاداري مختصة في مراقبة العمل القانوني للكاهن دون التدخل في العمل الديني الذي لا دراية للقاضي به. فقوانين الاحوال الشخصية لا تعطي القضاء الحق في مراقبة العمل التعبدي(باستثناء المماراسات الدينية المخلة بالقانون و التي لا مجال لها في هذا الحديث الذي نحصره في ممارسات الكنيسة القبطية الارثوذكسية فقط) الذي يقوم به الكاهن في الصلاة و ممارسة اسرار الكنيسة .. محاكم القضاء الاداري لا يمكن لها ان تتعدى اختصاصها في المراقبة الادارية إلي اجبار الكاهن على القيام بالشعائر الدينية و تتميم سر الزيجة أو عدمه لان هذا يدخل في حرية الكاهن في ممارسة عقيدته و اتباع تعاليم دينه و هي الحرية التي يحميها الدستور المصري و تحميها مواثيق حقوق الانسان العالمية

اخيراً و ليس آخراً: رفض البابا شنودة لتطبيق الحكم ليس فيه انقاص من شأن الحكم القضائي لأن تطبيقة لهذا الحكم فيه اهدار للعدل و لحق المواطن الدستوري في حرية العقيدة و حرية ممارسة الشعائر الدينية .. رفض البابا شنودة لتطبيق الحكم القضائي ما هو إلا ضوئاً جديدا مسلطاً على معاناة الاقباط واهدار حقوقهم الدستورية .. القوانين يمكن ان تخطئ و تقييد الحريات .. فقوانين التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا ليست بعيدة عن الاذهان و لكن وقفات الاحرار و تحديهم للقوانين الظالمة يجلب الحرية و العدل والتصالح و الاصلاح
فوقفة البابا شنودة هي زرع جديد في بستان الحرية!

No comments:

Post a Comment